نسق الهوية في الشعر الجاهلي
تعرف
الهوية على أنها " ظاهرة نفسية إجتماعية نقع عند نقطة التقاطع بين معرفة
الذات من طرف الانسان نفسه ، ومن طرق الاخرين ، وهذا يعنى أنها لا تنفصل عن
الثقافة التي تتغذى عليها محققة الهوية الثقافية وما تتضمنه من الثقافة من عادات
وأنماط سلوكية وقيم ونظرة إلى الكون والحياة "(1)
إن البحث في الهوية العربية من خلال القصيدة الإبداعية يعد مغامرة ممتعة حيث الكشف عن أبعاد الهوية العربية وقد نجد الهوية تتحد في علاقة الذات بالمجتمع وكذلك تصالح الذات أو تناحرها وفي سبيل ذلك قمنا بتقسم الباب إلى ثلاثة فصول، نبحث من خلالها عن الهوية المجتمعية في العصر الجاهلي وفي الهوية الذاتية، والهوية المتشظية أملين إمكانية الكشف عن بواطن الذات في العصر الجاهلي (القبلي ).
إن
الهوية مفردة يراد بها الكيان والوجود الذي يحقق للفرد استقلاله في هذا الكون،
بوصفه "إنسانا معترفا به اجتماعيا في داخل منظومة ايدلوجية كبرى "(2)،
فهي تعد الصورة الفكرية التي تحرك العقل المجتمعي وتمثلاته الثقافية، وتكون منغرسة
داخل الذوات التي نعي جزءا ضئيلا منا والغالب مخفي غير واضح لكنه يعمل بقوة وهو ما
يعبر عنه ثقافيا بالمهيمنات الثقافية ، ولذا نجدها تشكل نسقا في الخطاب الأدبي ؛
لان سؤال الهوية من أهم أسئلة النسق الثقافي .
والهوية
لم تكن بمعزل عن ذلك بل نالت نصيبا ، جعل التحديد يشوبه نوع من الصعوبة والتعقيد
لذا يحتاج " سؤال الهوية لنسق ما ، يجب طرحه والجواب عليه من داخل النسق نفسه
، وليس عبر مراقب خارجي ، يجب أن يستخلص النسق قراره بذاته، فيما إذا كان قد تغير
أثناء المسار التاريخي من خلال تغير النبي إلى درة انه لم يعد هو نفسه "(3)
، وهذا الأمر يجعلنا أقرب في فهم مفهوم الهوية والتغيرات التي طرأت عليها ، فكل
إنسان له موطنه ومكان اقاميه واصله الجغرافي ونوع جنسه ومهنه ووظيفة والتزامات
اجتماعية ، وهذه الأمور تجعلنا أعضاء في جماعات متنوعة وكل من هذه الجماعات تمنحه
هويته معينة " ولا يمكن أن يؤخذ على أنها الهوية الوحيدة للمرء أو التصنيف
الوحيد لعضويته في المجتمع "(4).
أن
الذات كينونة إنسانية صغرى تتماهي مع ذات جمعية اكبر تتمثل الهوية لمجتمعية،
فالإنسان إنما يبدأ بإدراك ذاته في ضمن مكون مجتمعي ذي ملامح ثقافية خاصة ومميزة ،
وفيه يتردد بالنظام القيمي والثقافي العام ، وبهذا المعنى يصبح مفهوم الأنا نسبيا
مثل سائر الصور الأخرى ، فالهوية كل ما يشخص الذات ويميزها وهي في الأساس تعني
النفرد ، إنما السمة الجوهرية العامة لثقافة المجتمع .
وتتصاعد
أهمية الهوية في العصور الحديثة لزيادة التجزئة التي أصابت الفناء الاجتماعي
وسياقاته الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية ، لذا " ما برح سؤال
الهوية الفردية والجمعية عل سواء يزداد إلحاحا وبروزا خلال العقد الأخير نتيجة
التحولات الاجتماعية والثقافية المقترنة بالعولمة ، بدا أن تكاثرت التيارات
الثقافية العابرة للقوميات (للناس والسلع ووسائل الاعلام المعلومات ) يعمل على
خلخلة الهويات المستقرة الراسخة "(5) ، فالهوية تجسد حاجة نفسية
واجتماعية لا غنى عنها ، تفصح عن المجال العاطفي والرمزي لنمو الذات وتفتحها و
اثباتها ، لأن " الكائن البشرى يمكن تشبيهه بشجرة ليس بمقدورة ان ينمو ويعيش
حياة عادية إن لم تكن له جذور ثقافية عميقة منها روحيا ومعنويا ويستمد منها معاني
حاضرة ومستقبله "(6) ، لذا تتمثل الهوية المجتمعية و"
الكيفية التي يعرف الناس بها ذواتهم أو أمتهم وتتخذ اللغة والعرف والثقافية والدين
... أشكالا فهي تنأى بعها عن الأحادي والصفاء ، وتنحو منحى تعدديا تكامليا إذا حسن
تدبيرها ومنح صداميا إذا اهملت وأسيء فهمها تستطيع ان تكون عامل توحيد وتنمية ،
كما يمكن أن تتحول إلى عامل تفكيك وتمزيق للنسيج الاجتماعي الذي تؤسسه عادة اللغة
الموحدة "(7) وتشكل القبيلة في ذهن الشاعر العربي القديم ، أكبر
من مجرد تجمع للأهل والعشيرة ، وأكبر من مجرد ملاذ آمن يحتمي به الفرد ، إنها نسق
فكري يؤكد تصورا ذهنيا لما ينبغي أن تكون عليه الحياة "(8) ،
تتشكل الهوية المجتمعية لدى الفرد في العصر الجاهلي بعد المرور بعدة مراحل ونجدها
في قول الشاعر حيث يقول في معلقته :
قفي قبل
التفرق يا طغينا نخبرك اليقين
وتخبرينا (9)
نلاحظ
في البيت السابق انصهار الذات الفردية مع الذات الجماعية \ القبيلة ، من خلال
الفعل ( نخبرك \ تخبرينا ) ، وفي المقابل يدعو الآخر \ المخاطب إل السكوت أو
بالأحرى إلى الاسكات ، وبالرجوع إلى البنية الإبداعية أو اللحظة الإبداعية وإن صح
ما ورد في بعض الروايات ، بأن هذا الجزء من المعلقة ، قد أنشده الشاعر أمام الملك
عمرو بن هند وهو امر مستبعد ) فذلك قد يؤدي من منظور تداولي إل شل حركة المخاطب ،
وتقليص هامش الحركة والرد والمناورة . إذ يسيطر الشاعر وحده على الخطاب ، ويوجهه
توجيها اراديا يخدم مصالحه وأهدافه . فأما م شعور المخاطب بتغييب اسمه وأنه نسب
إلى أمه ، وإنه حرم من مهمة الاخبار ، وأنه مأمور لا آمر .
وتتنزل
الأنا القبلية لتكون بؤرة الخطاب الشعري والوجودي والثقافي معا ، لتكون بديلا عن
الخمرة الصانعة الوعي الخرائف ، وللمرأة التي لم يستطع النسق الذكوري المهمين أن
يكتشف كينونتها ، وبالتالي قدرتها على المشاركة في إنتاج المعنى ، يساعد الكائن
على فهم الوقائع ، والتفكير في المصير ، وبناء الحياة ، انطلاقا من أن هذا النسق
الذكوري المتعالي، "مبرمج على ترتيب الفوارق واسناد المميزات وفق ما يعليه
العقل الاجتماعي والثقافي "(10) .
ويؤشر
حضور ضمير الأنا والتمعن مجتمعين في هذا القسم عن النص على احتلال الأنا القبلية
لبؤرة الخطاب، فالضمير يحضر بكثافة عددية ملفته ، تصل إلى حدود؛ 89 ضميرا في قسم
من النص تصل أبياته إلى حوالي 53 بيتا وعدد الضمائر هذا مرشح للزيادة الكثيفة في
حالة إحتساب بقية الوحدات النصية الأخرى، وهذا يعنى أن الأنا تتمركز على ذاتها ،
ولكن في نفس الوقت نجد أن الذات قد سلطانها على كل شيء وذلك نجده في قول الشاعر من
ذات القصيدة مفتخرا بذاته:
متى
ننقل إلى قوم رحانا
يكونوا في اللقاء لها طحينا
يكون
نفالها شرفي نجد ولقوتها
قضاعة أجمعينا (11)
القبيلة
هنا تنزع إلى أن تكون دولة ، أو هي تتماهى معها سلطة على البشر والأرض معا ؛
فالقبيلة هي " دولة من لا دولة له " (12)
يقوم
الشاعر في الابيات السابقة جملة كيرة من المؤشرات التي يمكن تسميتها بدولته
القبيلة، ذلك بحرصه الشديد على تحديد مظاهر السيادة ، وتجليات شرعنة السلطة والعنف
والهمنية، فالأنا القبلية القائمة على هذه الشرعية ، تسيطر على الماضي وعلى الحاضر
معا، فالامتداد السلطوي بدأ في الماضي وقد تجسد في المجد القبلي حين يقول في
الابيات التالية :
ورثنا مجد علقمة بن سيف أباح لنا حصون المجد دينا
ورثت
مهلهلا والخير فيه زهيرا نعم
ذخر الذاخرينا
وعتابا
وكلثوما جميعا بهم نلنا
تراث الاكرمينا
وذا
البرة الذي حدثت عنه به نحمي
ونحمي المحجرينا
ومنا
قلبه الساعي كليب فأي الجد
إلا وقد ولينا (13)
يغلق
الشاعر أبواب المجد ( فأي المجد إلا قد ولينا ) أمام الأخر وينسبه لذاته ولقبلتين
وفي نفس الوقت يبقى الأخر قابعا في الخلفية، بصورة باهتة وشاحبة، وهو يقع دائما
موقع المفعولية نحويا ودلاليا، وكأن الشاعر يحرص لا شعوريا على زحزحة الأخر إلى
المؤخرة .
وتبرز
الهوية المجتمعية في قول الشاعر النابغة :
ابلغ
بني بدر فكل صديقهم لهم لم يساموا
المنديات غضاب
فلا
تطعنوا في دار ذبيان إن من دعا منكم
بالصالحات مجاب
برجل
كمد بو المسيل يفثها حراشف يجعلن
البغال ولاب "(14)
تتجسد
أنا الشاعر في أعظم تحياتها في أحضان القبيلة، حيث الرابطة القبلية التي تحكم قدام
المجتمع الجاهلي ، وتعد القبيلة قواه الحياة الجاهلية وتجسيدا للهوية المجتمعية
المتجذرة في المكان ، وكذلك تبرز ذاتية امرؤ القيس مرتبطة بقبيلته من خلال المكان
فيقول :
وكنانية
بانت وفي الصدر ودها مجاورة غسان والحي
يعمرا
يعني
طعن الحي لم تحملوا لدي جائب
الأفلاج ن جنب غيرا
مشبهتهم
في الآل لما تكمشوا حدائق دوم او
سفينا مقبرا
أو
المكرعات من نخيل ابن يامن دوين
الصفا اللائي يليق المشقرا (15)
يجسد
الشاعر هويته المجتمعية بانتمائه لقبيلته من خلال التعبير عن الود الكامن في قراره
نفسه ، حيث إن ذاتيته لا تظهر بمعزل عن جماعته ، فهي فردية جماعية.
إن
الانسان بفطرته كائنا اجتماعيا يمارس حياته في اطار القبيلة، ولا يحيا إلا في ظل
تجمع بشري يضمن له حاجاته الأمنية والاجتماعية والنفسية والإنسانية، مما يترتب عل
كل فرد أن يسهم بطريقته الخاصة في الحفاظ عل هذا التجمع البشري من خلال الإذعان
للشروط السياسية والثقافية، بحسب ما يمليه القانون الأخلاقي الذي سطره المخيال
الثقافي والتاريخي للقبيلة، وهذا الخضوع إل سلطة القبيلة هو شعور عزيزي بالانتماء بما يحقق اشباع حاجات الفرد الضرورية،
بما يحظ المحيط الانسان من عدد خارجي ويوطد العلاقة الاسرية ،ويقلص التفاوت
الطبقي؛ وهذا يعني أن الانتماء بهذه الخصوصية هو حالة وجودية وضرورة إنسانية ،
" ومطلب طبيعي يحق لكل فرد التمتع به ؛ لكونه يحقق غايات إنسانية تبدا بتحديد
الهوية لنصل إلى تحقيق الوجود الذاتي"(16) في اطار الجماعة ، وهذا
لبيد بن ربيعة يحدد ولاءه ، ويوجد انتماءه ال قبيلته العامرية \سلطته ، التي تمنع
عنه الظلم ، وتصد عنه العداة حين تجوز
عليه الخصوم، فيقول :
اني
امرؤ منعت أرومة عامر خيمي
وقد جنفت على الخصوم
جهدوا
العداوة كلها فأصدها عني مناكب
عزها معلوم
منها
حوى والذهاب وقبله يوم
ببرقة رحرحان كريم
وغداة
قاع القرنيتين اتيتهم رهوا
يلوح خلالها التسويم
غصي به
حتى تصيب عدونا وترد منها غانم
وكليم (17)
اذا كان
" مفهوم الولاء قد ارتبط قديما بالسلطة
والحرب "(18) ، فإن الشاعر لبيد يؤكد هذه الرؤية التي تجمع الولاء
للقبيلة مقرونا يفضيه الصراع والحرب ، ( إني امرؤ منعت أرومة عامر.... خيمي \
جهدوا العداوة كلها فأصدها ) ، فهو يرى أن لا سبيل لتحقيق الذات الفردية والسيادة
الجماعية إلا من خلال ممارسة طقوس الحرب على الاخر المنافس على الجغرافيا .
وعليه
يمكن القول إن الحرب مهما كانت أسبابها ونتائجها ، فخي تحمي الافراد من الاخطار
المحدقة بهم ، وتسهم في اتحاد أفراد
القبيلة ،.
وانطوائهم
تحت عباءتها السياسية \ القبيلة ، تحت سيطرة سيد القبيلة المسيطر الذي يبدو أنه "
يفتس عن الطمأنينة في القلق ، وعن السلام في الحرب ، وعن السعادة في الالام
والاحزان ، هذا الانسان ، الذي هو الكائن المفتش ابدا عن حقائق هاربة ، يظهر كأن
طفية مفطورة على النحو والتطور داخل معادلة التناقص والتعارض (19)
" الإنساني، ذلك إن " قضية الانسان الكبرى تختصر مع تشعباتها وتعقيداتها
، في مسألة واحدة ؛ السلام مع الذات والسلام مع الاخرين كشرط أساسي للحصول على نوع
من السعادة التشبية "(20) التي يبدو انها لن تتحقق الا بتأمين
الافراد نفسيا واجتماعيا .
إن
طبيعة المتجمعات القبلية " لا يصدق دفاعهم وزيادهم إلا إذا كانوا عصبية واهل
نسب واحد ؛ لانهم بذلك تشتد شوكتهم ، ويخشى جانبهم إذا وفرة كل أحد على نسبه
وعصبته أهم ، وما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم
وقرباهم موجودة في الطبائع البشرية ربما يكون التعاضد والتناحر " (21)
والغلبة .
ويشكل
الانتماء للقبيلة والانصهار في بوتقة الهوية المجتمعية وجهة نظر ، وقرار استراتيجي
يرسم ثقافة التعايش ، ويعزز فكرة المواطنة والتي من شأنها تكثيف طافة الإحساس
بالانتماء إل السلطة المركزية التي تنظم القي وتبني العصورات ، وتحمي الجغرافيا ،
وتوحد الشعور بالاندماج الاجتماعي والثقافي ، وهو ما يثبته الشاعر عبيد بن الأبرص
؛ حيث يقول :
إذا كنت
لم تعبأ برأي ولم تطع الى اللب أو
ترعي إلى قول مرشد
ولا تتقي
ذم العشيرة كلها وتدفع عنها
باللسان واليد
وتضع عن
ذي جهلها وتحوطها وتقمع عنها نخوة
المتهدد
وتنزل
منها بالمكان الذي به يري الفصل
في الدنيا على المتحمد
نلت وإن
عللت نفسك بالمنى بذي سؤدد باد
ولا كرب سيد (22)
إذا كان
الولاء \ الانتماء يوفر سياقات أخلاقية ونفسية للفرد ، ويقوم بحماية شؤونهم
الثقافية ومصالحهم الذاتية ، ويوحد مخيالهم الثقافي والاجتماعي ، فان من حق
الأفراد بحسب رؤية الشاعر أن يتفانوا في خدمة هذا الولاء شعورا ( ترعى القول مرشد
) وسلوكا ( تدفع عنها باللسان وباليد ) دون الإحساس بالدونية إذاء هذا الاستسلام
المطلق لشروط القبيلة ؛ لأنه استسلام بمسحه الاعتداء بالنفس؛ يمنع السؤدد
والاعتزاز ( فلست ...بذي سؤدد ) ؛ ويحقق للذات
وجودها الاجتماعي والإنساني؛ بمعنى أن جوهر الولاء هو " نوحد الداخل
بالخارج ، وبين ما يرغب الفرد ويرفضه المجتمع، وتجمع بين الخضوع الارادي وتحقيق
حرية الفرد ووحدة الذات " (23) الإنسانية .
ومثلما
استطاع الأفراد الذود عن بيضة القبيلة ، خارجيا ، بأن قمعوا عنها كل خطر بهددها (
وتقمع عنها نخوة المتهدد ) كذلك استطاعوا الاسهام في عملية البناء النفي من خلال
تعزيز أواصر المحبة إلى التعاون في السعي نحو توحيد الإحساس بالانتماء الى الذات
الجمعية وتحديد الهوية المجتمعية ( وتصفح عن ذي جهلها ) حتى ترتقي القبيلة
وأفرادها مكانا عليا لائقا بفضلها ( وتنزل منها المكان ... يري الفضل )
وربما
تأسس الانتماء على فكرة المواطنة التي يغذيها الشعور بانصهار الفرد بكل حمولاته
الثقافية مع الذات الجماعية على اختلاف العرف والنسل ، لكن في نسيج دينامي حركي
تتجاوز فيه الرؤى والتصورات ، ونتوحد فيه المصالح والمنافع ، وتتحقق من خلاله
حالات إثبات الوجد الإنساني والاجتماعي والثقافي كما هو الحال عند عنترة بن شداد
العبسي الذي ما فتنت ذاته تحاول اختراق الطيف الاجتماعي ، وتعيد انتاج هوية جديدة
بمساحة ثقافية وفق تصور اشمل واوسع والتصور الذي اصطنعته القبيل لنفسها ، فيقول
عازلا قبيلة عبس عل تفييقها وفاض الانتماء :
إن كنت
في عدو العبيد فهمتي فوق
الثريا والسماك الأعزل
أو
أنكرت عبسي نسبتي فسنان
رمحي والحسام يفر لي
وبذابلي
نلت العلا لا
بالقرابة والعديد الاجزل
ورميت مهري في العجاج مخاضه والنار تقتد من شفار الأنصل (24)
ونشأ عنترة اول ما نشأ عبدا أسود ( إن كنت في
عدد العبيد ) ، يحسن الحلاب والصر ، يبحث عن ذاته المتوارية خلق غبار الفقد والنية
والضياع ، تؤرقه في ذلك فضيحة السواد المتسللة إليه بيولوجيا هبر أمة الحبشة ،
ويؤلمه الشعور بفقدان الحرية ، وغياب أمل بعيد إليه توازنه النفسي في خصم صراع
ثقافي صنعت متاربة القبيلة العربية حين راحت نؤسس تصورا فكريا وسلوكيا ( أنكرت
فرسان عبس نسبتي ) لا يعترف بالطبيعة التعددية للحياة الإنسانية عبر فكرة تقسيم
الجيش البشري وفق معايير عرفية تفضي نقص تحيل عنترة إلى ما يشبه حالة التشيؤ ، أو
سقط المناع الذي لا شأن له بحكم " أ، القبيلة هي الدولة ، والدولة التي تقوم
على صلة الرحم هي دولة النسب ، فالنسب قانون ، وأحكامه سنة ثابته " (25)
، لا تبديل فيها ولا تحوير ، وذلك ايقظ الوعي لعربي عنترة الذي اصطدم لسياح العالم
القبلي ، ابتداء من أبيه الذي صادر حقه في الابوة البيولوجية ، وانتهاء بالمجتمع
الذي صادر حقه بالأبوة الاجتماعية فما كان من عنترة إلا أن يجابه هذه المفاهيم بتأسيس
مفهوم جديد لما هو الانتماء، الذي لا يعدو إلا أن يكون " جوابا مسبقا على من
نكون " (26) وكيف نكون، ومتى نكون، كذات تبحث عن هويتها وكينونتها
الإنسانية داخل اطار القبيلة .
عنترة
هنا يضع حجر الزاوية لأنموذج الهوية المجتمعية ( المواطنة ) بوصفها مشروعا فلسفيا
يقوم على أساس أن القبيلة مؤسسة جامعة لكل
الوان الطيف الإنساني ؟ وكأن عنترة يؤسس لفكرة الوطن \ القبيلة التي ترفض الاقصاء
، ويستوعب الجميع في محاولة للحفاظ على الهوية الجمعية التي أصبحت عنده مطلبا هاما
في الصيانة وحياة الانسان الجاهلي عل وجه العموم .
كما
يشير الى فكرة أخرى وهي أن ممارسة المواطنة لا تكفي بالنسب ، أو بالقرابة ، بل
بمدى فاعلية الفرد في بناء الوطن وحمايته ( فنان رمحي والحسام بقربي ) وبذابلي
ومهندي ) ، وكذا مشاركته في الحياة الاجتماعية والسياسية ( منته فوق الثريا ؛ تلت
العلا ) .
نجد أن
الهوية المجتمعية للإنسان في العصر الجاهلي قد تأسست على ثقافة ( النحن ) وهذا
النحن المتشابه والمترابط والراغب في الحفاظ على هذا الشعور بأن الفرد الواحد هو
جزء من هذا المجموع المتكتل ثقافيا واجتماعيا ، فمقام الأنا الخافت يكاد يتلاشى مع
مقام النحن العالي فكأننا نسمع القصيدة نشيدا ، لا من صوت واحد ، بل من أصوات
متعددة ومتنوعة ، لكنها متناغمة ومتجانسة نتطلع إلى عملية بناء اجتماعي ؛ أعني نمط وجود النحن من حيث جذب جذري من
العناية بالوطن القبيلة .
إن
الهوية الذاتية تجربة إنسانية معيشية يخلق هويته الفكرية والثقافية والأيديولوجية
، إذا إنها ليست قضية صورية بين الإثبات والنفي ، بين المثالين والواقعين بل هي
حرية إنسانية معينة ، لذا عدت إمكانية مصاحبة ، للوجود بوصفها وعيا ذاتيا يتخلق
بالحركة، فكل " ذات هوية كامنة نوحدها ونحميها من الانقسام في الوجود الانساني
ومقولاتها الوجودية والامكانية والوعي الذاتي لا الوجود والعدم وفي هذه الحالة
تسمى هوية ذاتية، فلا نحتاج في تحلياها إلى المراجع ونقل تجارب الآخرين من
الاستناد إلى تجربة معيشة حية "(27) ، وبذلك تشكل القصيدة عند
الشاعر الجاهلي يستطيع من خلالها التعبير عن تجربته الشعرية ،إذ " أن اللغة
أصوات تعبر الذوات بها عن مقاصدهم وأغراضهم وانفعالاتهم "(28) وفي
ضوئها تتم عملية التواصل الفكري والثقافي والاجتماعي.
وتشكل
الكتابة نسقا ثقافيا يحمل قضايا مجتمعية وسياسية وفكرية ، فضلا عن انها وسيلة
اتصال بين الشاعر ومجتمعه ، ويتجلى صورة الفرد في الشعر الجاهلي : في قول عنترة :
أني امرؤ
من خير عبس مصبا شطري واحنى سائري
بالمتصل
يفتخر
الشاعر بذاته الشجاعة وبأتي هذا الفخر مدعاة لإثبات الهوية الذاتية والدفاع عنها
.
تشكل
أزمة الهوية من أفتك الأزمات التي تعاني منها المجتمعات وتعد التشظي أخطر الامراض
التي تصيب الهوية الذاتية والمجتمعية على حد سواء ، حيث إن " العربي "
يعيش حالة تسودها التمزقات النفسية والاجتماعية وسياسية كارثية تنتمى به إلى فقدان
الهوية "(29) ، حيث نجد الخطابات " تعكس طبيعة التفكير
البشري المتسم بطابع التقلب السريع في بداية هذا القرن الذي تعمه الفوضى
البرغماتية ضمن ما يحتويه التعامل الاشاري في دلالاته المتفككة ؛ ... لان النص
الادبي اليوم يحمل دلالات متنوعة وفق ما تحدده القراءات المتعددة "(30)
، فالتجربة الشعرية تبدو متماسكة ظاهريا ولكنها في مجملها تعبير عن حالة القلق
والاضطراب التي يعيشها والشاعر ويكون هذا القلق والاضطراب فنتيجة الاحتكاك بالواقع
وملامسة حيثياته الدقيقة التي لا يشعر بها إلا من كان ذو بصيرة نافذة ، ولعل
الشاعر الجاهلي قد مر بحالات من التشظي التابعة من قسوة البيئة وسيطرة تضاريها على
الذات بشكل عام ، فالهوية المتشظية تتكون عند الذات نتيجة لا صدام الذات مكونات
المجتمع والبيئة وفي حال كان احتد الاصطدام يؤدي ذلك إلى دخول الذات قيم أزن
الاغتراب حيث يشكل الاغتراب " ظاهرة اجتماعية تاريخية سواء من حيث نشأتها أو
تطورها "(31) ، إذا إنها عريقة الأصل وضاربة في الجذور إلى نجر
البشرية جمعاء ، فهي نسق مونل بالقدم في الحياة العربية ناتجة عن حالة عدم
الاستقرار وخير ما يمثل هذه الحالة الانسان الجاهلي الذي حكمت عليه قساوة الحياة
بالقلق وأصبحت أسئلة الوجود لديه مصدر أرق يسلب راحة البال . ويشكل الاغتراب شكلا
من أشكل التشظي وقد حفل به الشعر الجاهلي
كنتيجة طبيعية لنمط العلاقات السائدة بين الأنا ومكونات الوجود المحيطة؛ إنسانا
ومكانا وطبيعة ، وهذه جمعيا (بما فيها الانا ) تظل كائنات متحركة في عالم لا يكف
عن الحركة والتحول والترحل .
فالشاعر
" البدوي " انسان هائم يطوي جراحة يعود إلى الديار بعد شرود غير واضح
المعالم ، فلا "يلقى من أثر الظعائن سوى طلل الرحيل ووشم المنازل تحت الرمال
. ولا تنفك ذكرى هوية الحبيب تلهب الآلة كما راحت من عمق غيابه الغارق في هب الزحف
الراسخ للبيداء "
وهذا
أمرؤ القيس ابن القبيلة وابن مليكها ( حجر الكندي ) يختار الخلاعة والاباحة ،
واشتغل بالنساء وتهتك بهن ، وراح يعاقر الخمر على أن يحيا في كتف الرياسة والملك،
وهو حينذاك شاعر شاب يعترض فتيات بني أسد ويغازلهن ، فبلغ ذلك أباه ، فطردوه من
القبيلة ؛ لان العرف الجاهلي يقضي أن يترفع أبناء الملوك عن اللهو واللعب والتغزل
والتشيب ، فما كان من أمرئ القيس الا ان خاض تجربه حياتيه خارج القبيلة ،غارقا في
متاهات اللذة والمتعة، بوصفها نوعا من مواجهة الواقع المأزوم فيقول في أحدى
مغامراته الغرامية :
وتحسب
سلمى لا تزال ترى طلا من الوحش أو
بيضا بميثاء محلال
ليالي
سلمى أذ تريك منصبا وجيدا كجيد
الريم ليس بمعطال
و يا رب
يوم قد لهوت وليلة بائسة كأنها
خط تمثال
فلو أن
ما أسعى لأدنى ميشه كفاني ولم أطلب
قليل من المال
ولكنهما
اسع المجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وما
المرء ما دامت حشاشة نفسه بمدرك
أطراف الخطوب ولا الي (32)
وقال
داعيا الى التمتع بالدنيا وتشوه النساء الحسناوات قبل فوات الأوان :
تمتع من
الدنيا فانك فاني من النشوات
والنساء الحسان
البيض
كالآرام والأدم كالدمى حواصنها
والمبرقات الروائي (33)
بم يعبر
عن حالة التشظي التي يعيشها من خلال اتخاذ الحيوان معادلا اجتماعيا ونفسيا لأشكال
الضجر والقهر داخل ثقافة السرب القبلي ، وذلك تعبيرا عن رفضه لسياسة القبيلة وتمرد
على عاداتها وتقاليدها ، فيقلل عن ذئب لقبه في مهامه المفاوز محاورا ومؤنسا إياه
فيقول :
دماء
كلون البول قد عاد آجنا قليل به
الأصوات في كلا محل
لقيت
عليه الذئب يعوى كأنه خليع خلا من
كل مال ومن أهل
فقلت له
يا ذئب هل لك في اخ يواسي بلا أثري
عليك ولا بخل
فطرب
يستعوي ذئابا كثيرة وعديت كل ما هواه على شغل (34)
يفيض
الشاعر ساردا بعض مغامراته العاطفية والعبثة ، وهذه المرة مع سلمى ؛ المرأة
التمثال ، كأنها مصباح زيت في قناديل ذبال ، أو كريم وهل في محاريب اقيال ، تدهش
الشاعر وتحيله سيمفونية وجودية ترتل أناشيد العشق والهيام ؛ وإذ في الابيات مزيج
رؤى ، ومتاهات تتزاحم بطريقة عبثية عبث الوجود عند امرئ القيس ، وكنه " لم
يجد أصدق من لوحات المغامرات الغرامية تعبيرا عن مستوى السعادة واللذة ، فكانت
فاطمة وأم الرباب وام الحويرت ، وميضة الحذر "(35) وسلمى رموزا
مشرعة على عوالم وجودية تتطلب اشباع غرائز جائعة ، يجدها امرؤ القيس متنفعا عن
حالات الفراغ والتوتر والانفعال المخونة في اللاواعية الذاتية .
إن
اقتناص اللحظات الشعبة والانطلاق نحو آفات الشهوائية ( تمتع من الدنيا ) ، يعد
أساسا لهوية بديلة يجدها الشاعر معادلا نفسيا لحالات القهر والاضطهاد النفسي ، فيبدأ
التأسيس للعام الانفصال واللاتواصل بين النسق المعاكس المتجذر في الوعي الفعلي لد
الشاعر ، وبين النسق الجمعي المؤسط بسياج من القيم ، يرفضه الشاعر ، وكان الشاعر
" يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهي ، يشعر بأن الاضطراب
والفوضى هما أعمق تجذرا من النظام الذي يؤمن به قومه " (36) بنو
أسد ، حينها يضطرب " أحكام المنطق العادي ويدخل عالم الأحكام التي تكبحه ..
ويكون جموحة قويا ، بقدر ما يكون الكبح قويا .. فيكون الجموح بالضرورة فوضى ..
وهكذا يكون المجون تعويضا عن غياب الحياة ، بل يصبح هو نفسه الحياة "(37)،
التي ينتمي إليها امرؤ القيس .
وتصبح
الفوضى واللامجتمع أفضل للشاعر من النظام القبلي الذي يمثل المجتمع ، فيدخل بذلك
في دائرة الانزياح القيمي الذي يقوم على مبدأ الاستبدال والمغايرة التي تبدو أنها
حالة متعالية ،" تنشأ أساسا عن وصول أوجه الاختلاف الى درجة قياسية ، تتحول
بموجبها الأنا الى ذات مغايرة للآخر ، أي تتحول إلى هوية تعي ذاتها باعتبارها هوية
مستقلة مخالفة للآخر ومختلفة عنه "(38) في السلوك والتفكير ...
ان حالة
التشظي التي يعيشها امرؤ القيس جعلت منه كائنا من نوع آخر ، نيتأنس بالوحوش
والضواري التي يري فيها معادلا موضوعيا يتكامل معها اجتماعيا في تواصل وتفاعل ؛
لان ما يجمعا اكثر بكثير مما قد يفرقهما ؛ فهما في معاناة وضياع وتشرد ، وهما أيضا
يلوذ ان بالبراري ، بحثا عن مأوى أو شربة ماء ، وهما في صراع لا منتهى من أجل
البقاء الوجودي ؛ ويتمثل البقاء الوجودي في اثبات الذات المتشظية التي تعيش غربة
العادات والتقاليد ، وهكذا انحدرت الذات الإنسانية من وضعها البشري الى وضعها
الحيواني الغريزي فأصبح النموذج الحيواني مثالا يحتذيه الشاعر ، وينسج تصوره
اللانتمائي على وفاته ، سواء في مكابدة الطبيعة وضمان البقاء والديمومة ، أم في
اقبالة على الحياة بنهم مستجيبا للصيحة البركانية الصارخة الكامنة في نفس الشاعر
الذي استطاع أن " يخلق لنفسه مستقبله ... وعليه أن يخلق مبررات وجودة خوفا من
ان ينحدر ، فيصبح شبيها بالوجود الاعمى "(39) أو الدخول في حالة
غريبة يعجز فيها الشاعر عن معرفة ذاته ، وهو ما قد يمثل أقصى درجات التشظي التية
والضياع .
إن امرؤ
القيس اللا منتمي " إنما يعود الى الوراء بمراحل ؛ إلى مرحلة الذئب أو الطفل
"(40) ، حيث الفطرة والغريزة البدائية ؛ فهو يستأنس بالذئب ،
ويستحسن جوارة فهو ، يصل به الحد الى ان يجعله اخا يواسي همه ، بل يسقط على الذئ
عواء النكد والقيم البشري الذي خلفه وراءه ، فيختلط حينها الانتماء البشري بالعواء
الحيواني ، فإذا الذئاب تجتمع مشفقة عليه ، وتطرب لهذا الانتماء ، بل تتنادى فيما
بينها ترحيبا بالضيف الجديد ( فطرب يستعوى ذئابا كثيرة ) ، وتقبله في مجتمعها
المتشرد ، ما يعني أنما أمام ذات أرهقها المجتمع الإنساني ، فإذا هي " تخلع
انتماءها الى هذا المجتمع ، وتؤسس انتماء
جديدا لما الى المجتمع الحيواني . إنها تغترب عن عالم الانسان وتلوذ بعلم الوحوش
"(41) ، بل تتوارى خلف صورة الذئب متلبسة بليوسة ، وتتخذ منه
أمنيا خارج قواعد المجتمع الإنساني . في تمثيل عجيب لحالة التشظي التي تنتاب شخصية الشاعر امرؤ القيس ، وهويته
الاجتماعية ..
كما نجد
حالة التشظي والقلق عند الشاعر طرفة بين العبد ، وهذا يمكن تسميته بالهامش
الاحتجاجي ضد المركز التسلطي ( أبناء العمومة \ القبيلة ) لحالة للتعبير عن رفض
الظلم ، حين اجتمع أبناء العموم على سلب حقه في الميراث ، ظالمين امه، وهو لا يزال
غلاما يرفل في ثوب لذاته لكنه مع ذلك لم يفقد حالة التقدير لهم فيقول :
ما
تنظرون بحق وردة فيكم صفر البنون رهط
وردة غيب
قد يبعث
الأمر العظيم صغيرة حتى تظل له
الدماء تصيب
والظلم
فرق بين حيي وائل بكر نساقها
المنايا تغلب
قد يورد
الظلم المبين آجنا ملحا يخالط
بالذعاف ويقشب (42)
ثم
يتابع موجها اللوم لأبناء العموم ، وملخصا مأساته مع ذوي القربى في صورة حكيمة
بالغة فيقول :
وظلم ذي
القربى اشد مضاضة على النفس من وقع
الحسام المهند (43)
وبعد
ذلك يقرر الخروج والتفلت من البقاء في عالمه القبلي الى عوالم أخرى علها تكون اسمى
وارقى وافضل ، لكن وسيلته للخروج كانت الخمرة \ اللذة بوصفها معادلا نفسيا لحالة
التشظي والنية الذي لفيه في قبيلته ، فيقول عن مغامراته الوجودية :
ما زال
تشرابي الخمور ولذتي ربيعي وانفاقي
طريفي ومتلدي
الى ان
تحامتني العشيرة كلها وافردت افراد
البعير المعبد
الا
أيها اللائمي اشهد الوغى وان انهل
اللذات هل انت مخلدي
رايت
بني غبراء لا ينكرونني ولا اهل هذاك
الطراف الممدد
فان كنت
لا تستطيع دفع منيتي فدعني ابادرها بما
ملكت يدي (44)
تتمزق
ذات طرفة بين واقعين متناقضين ؛ واقع مثقل بانتكاسه ، فأزوم بإحزانه الذات ومتشظ
بحالات الضيق والضيم الناجم عن تقلبات الحياة داخل القبيلة ( الظلم ، قرف ، أفردت
) وواقع آخر يرنو فيه الشاعر الى تحقيق وجوده من خلال البحث عن حريته ( فدعني
ابادرها ) ، لان الوجود قرين الحرية ، وهو ما يؤكده " هيرغر والوجوديون بعامة
أن تحقيق الانسان لوجوده مرتبط بالحرية ، فالحرية والوجود عنده متلازمان "(45)
، تلازم الوجهين في العملة الواحدة ، فما كان من طرفه الا ان سعى الى خلق منافذ
نفسية نحو عوالم حليمة ، تخفف عنه ضغوط الواقع المعيش ، فلجأ الى " شرب الخمر
، لا لأنه يريد المتعة فقط، بل لأنه يريد أيضا تخدير وعيه متخلصا من قبيلته التي
لفظته ، بل من أقرب أقاربه
سوء معاملة أعمامه وقسوتهم عليه ، حيث لم يكن
في نظام قبيلته ما يشده اليه ، فقد أنكر في هذا المجتمع فتشرد واصبح لا منتميا
"(46) ، قد تحاملته العشيرة وافردوه افراد البعير الاجرب .
غير أن
ذات طرفة لم تكن تعرف طريقها بعد خروجها عن نظام القبيلة ، بل كانت هائمة تبحث عن
هوامش تغلق بها ، وتخلصها من براثن هذا المركز \ القبيلة ، ما يعني انها "
ذات تعيش الانشطار دون وعي بأبعاده وآثاره السلبية التي تجرد المرء من هوية ثابتة
؛ لذلك فهي تعيش مفارقة الانتماء و اللا انتماء دون ايه محاولة للبحث عن الانتماء
الحقيقي " (48) ، الذي يضمن صياغة مكان بديل لواقع مأزوم ...
وهذا ما
يفر حالة القلق والتردد عن طرفة بن العبد في انتمائه تارة ، وعدم انتمائه تارة
أخرى ، فهو يحن الى مربعة وأهله ، لكنه في الوقت نفسه تشده غزة النفس نحو الرحيل
والبحث عن منفى آخر ، كلن منفى طرفة " يقع في منطقة وسطى ؛ فلا هو يمثل
تواؤما كاملا مع المكان الجديد ، ولا هو تحرر تماما من القديم ، فهو محاط بأنصاف
مشاركة ، وأنصاف انفصال ، ويمثل على مستوى معين من ذلك الحنين الى الوطن وما يرتبط
به من مشاعر "(49) إنسانية جياشه ، كما في قوله معاتبا أهله :
فما لي
أراني وابن عمي مالكا متى ادن منه ينأ
عني ويبعد
يلوم
وما أدر علام يلومني كما لامني في
الحي قرط بن معبد (50)
ويتابع
حالة اللوم في موضع آخر فيقول :
فان كنت
لا تستطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما
ملكت يدي
ولو لا
ثلاث هن من عشيه الفتى وجدك لم أحفل
متى قام عودي
فمنهن
سبقي العاذلات بشربه كميت منى ما
تعل بالماء تزبد
فذرني
أروىى هامتي في حياتها مخافة شرب
في الحياة مصرد
كريم
يروي نفسه في حياته ستعلم إن
متنا غدا اينا الصدى
أرى فبر
نحام بخيل بماله كقبر غوى في
البطالة مفسد
أرى
الموت يعتمام الكرام ويصطفى عقيلة مال
الفاحش المتشرد (51)
تبدو ذات
طرفة ممزقة من خلال الابيات السابقة ، بحيث تتأرجح بين حبلين ذي لونين مختلفين ،
حبل يستمسك به ، ويؤرجحه نحو استقراره بين الأهل ، وحبل آخر يحاول من خلاله اتباع
هوى الذات بما يحقق امنها واستقرارها خارج القبيلة ، ولكنها لا تجد الذات ، ما
يجعلها تعود خائبة ، وبين حلة الهنا والهناك ، يضيع انتماء الذات ونتجسد حالة
التشطي وتبدا اسفله الوجود منخر عقل الشاعر طرفة بن العبد ( أكون \ لا أكون، الهنا
\ الهناك ، منتم \لا منتم ، الواقع \ الحلم ، الموت \ الحياة).
ان حالة
الازدواج في الوعي واللاوعي لدى طرفة تجعل منه فردا غير قادر على الاندماج وكذلك غير قادر على الاغتراب
فهو يعيش في المساحة الرمادية ما بين القبيلة والذات وهي من أخطر حالات التشظي
والانفلات نحو عالم الات الحائرة ، إن هذا التأرجح بين الاختيار والضياع اوجد لنا
نموذجا غريبا ، حيث طرفة بن العبد ذلك الشاب اللا منتمي الى القبيلة ، ينتمي الى
ذاته تسقط ، فأصبح ذاتا منفصلة هائمة في الصحراء لا تحده الثخوم ، ومع لك لم يغفل
مشكلة الموت التي ترهق كاهلة ؛ بل ترهق كل ما في " الوجود اليومي من ابتذال
يسلب الموت حدته التراجيدية ، ... انه النتيجة بالمأساة حينما تسود هذه الحقيقة "(51)
التي لا مفر للإنسان منها ، وكان طرفة بن العبد يفضل الموت على الانتماء الذي يسعى
اليه .
ان هذا
النسق الحياتي الذي يبرز هوية التشظي في العصر الجاهلي الي لم يكن سوى تمردا
وجوديا أو " نشاطا اجتماعيا ونفسيا لا يخلو من رغبة في تأكيد الذات ، والتوق
الى اثارة الانتباه بالخروج عن المألوف " (52) القبلي ، فهو اشبه
ما يكون تنصل من قانون القبيلة . فهو تمرد ناعم ، ولكنه يومي بتأزم المجتمع
الجاهلي وقسوة سلطته وكما يمكن تعريفه بعلم السياسة ودكتاتورية النظام القبلي هي أحد
أسباب تشظي الهوية المجتمعية .
الهوامش:
1. دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد
الثقافي اضاءة توضيحية للمفاهيم الثقافية : سمير الخليل، ص315 ، دار الكتب
العلمية، د.ت.
2. من بنيات المماثلة الى أنماط المغايرة (دراسة
ثقافية لأنساق البداوة والحضارة في الشعر العربي) :شيماء نزار عايش ، ص129، ط1، تموز
للنشر والتوزيع ،سوريا، دمشق ، 2016م.
3. مدخل إلى نظرية الأنساق :نيكلاس لومان ، ترجمة
: يوسف فهمي حجازي،ص24 ، ط1، دار الجمل ، ألمانيا –بغداد ، 2010م.
4. : الهوية والعنف وهم المصير الحتمي :أماريتا
صن ، ترجمة : سحر توفيق ، ص 320، ط1، عالم المعرفة ، الكويت، 2008م.
5. : مفاتيح اصطلاحية جديدة معجم مصطلحات
الثقافة والمجتمع :طوني بينييت ولورانس غروسيرغ وميغان موريس ، ترجمة : سعيد
الفاغي ، ص 704، ط1، المنظمة العربية
للترجمة ، بيروت ، 2010م.
6. اللغة والهوية في الوطن العربي إشكاليات
تاريخية وثقافية وسياسية :مجموعة من المؤلفين ،ص 248، ط1، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ،
بيروت ، 2013م.
7. المرجع السابق : ص227.
8. : لسانيات الخطاب وأنساق الثقافة : عبد
الفتاح أحمد يوسف،ص 141، الدار العربيةللعلوم ناشرون ، ط1 ، لبنان ، بيروت ،
2010م.
9. الديوان:
عمرو بن كلثوم ، ص66 تحقيق :اميل يعقوب ، ط2، دار الكتاب العربي،بيروت ، لبنان ،
1996م.
10.
بنيان الفحولة أبحاث في المذكر والمؤنث :رجاء
سلامة ، ص85 ، ط1، دار بترا للنشر والتوزيع، سوريا، دمشق ، 2005م.
11.
الديوان:
عمرو بن كلثوم، ص72، سبق ذكره.
12.
القبيلة
والقبائلية أو هويات مع بعد الحداثة :عبد الله القدامي ،ص161، ط2، المركز الثقافي
العربي ، الدار البيضاء المغرب ، بيروت ، لبنان، 2009م.
13.
الديوان: عمرو بن كلثوم ، ص75-80-81.
14.
الديوان:
النابغة الذبياني : ص11.
15.
الديوان :امرؤ القيس ، ص93.
16.
سيميات
أيديولوجية ، حبيبة الصافي،ص152، محاكاة
للدراسة والنشر والتوزيع ، الجزائر ، 2011م.
17.
الديوان
لبيد بن ربيعة ، ص156.
18.
فلسفة الولاء :جوزايا رويس ، ترجمة أحمد الأنصاري ، مراجعة حسن حنفي
،ص50، المجلس الأعلى للثقافة ، بغداد،
2002م.
19.
أيديولوجيا
الحرب وفلسفة السلام : جورج حبيقة ، موقع معابر، أخر زيارة 2/1/2015م.
20.
المرجع نفسه.
21.
كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب
والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر :عبد الرحمن بن محمد (ابن خلدون)
، ص136،ط2، دار صادر ، بيروت لبنان ، 2002م.
22.
الديوان:
عبيد بن الأبرص ، ص58.
23.
فلسفة الولاء: جوزايا رويس ، ص80. ، مرجع سابق
24.
الديوان
:عنترة العبسي ، ص115.
25.
كلام البدايات: أدونيس ، مرجع سابق ، ص60.
26.
الهوية والحرية ، نحو أنوار جديدة: فتحي
المسكيني ، ص 25،جداول للنشر والتوزيع، الاردن
، 2011م.
27.
اللغة
والهوية في الوطن العربي إشكاليات تاريخية وثقافية وسياسية:مجموعة من المؤلفين ، ص188.
28.
الديوان
:عنترة بن شداد ، ص119.
29.
العرب ومسألة الاختلاف مأزق الهوية الأصل
والنسيان :إسماعيل صهفانة ،ص70، ط1، منشورات الضفاف ، الرباط ، 2014م.
30.
آراء التأويل ومدارج معنى الشعر: عبد القادر
فيدوح ، ص79، ط1، دار صفحات للقراءة والنشر ، دمشق ، 2009م.
31.
الراحل
على غير هدى شعر وفلسفة عرب ما قبل
الإسلام: سلام الكندي ، ترجمة محمد بن عبود ، ص11،ط1، منشورات الجمل ، ألمانيا ،
2008م.
32.
الديوان:
امرؤ القيس ، ص28 .
33.
المصدر
نفسه : ص78.
34.
المصدر
نفسه: ص63.
35.
قراءة معاصرة في نصوص من التراث الشعري: محمود
عبدالله الجادر، ص34، دار الشؤون الثقافية العامة ، وزارة الشؤون الثقافية
العراقية ، بغداد ، العراق ، (د.ت) .
36.
اللا منتمي :كولن ولسن ، ترجمة: علي مولا ، ص 50،ط5 ، دار الآداب، بيروت ، لبنان ، 2004م.
37.
الثابت والمتحول: أدونيس ، مرجع سابق ، ص 114 .
38.
مدارات المنفتح والمنغلق في تشكيلات الدلالية
والتاريخية لمفهوم الهوية:أراق سعيد، ص 238 ، مجلة عالم الفكر ، مجلد 36 ، ع 4 ،
2008م.
39.
نظرات
حول الانسان: روجيه جارودي ، ترجمة : يحيي هويدي، ص77 ، المجلس الأعلى للثقافة ،
مصر ، 1983م.
40.
اللا منتمي :كولن ولسن ، مرجع سابق ، ص 124.
41.
:شعرنا
القديم والنقد الحديث:وهب أحمد رومية، ص256 ، عالم المعرفة ، المجلس الوطني
للثقافة والفنون والآداب، الكويت ، 1996م.
42.
الديوان:طرفة
بن العبد ، مصدر سابق، ص114.
43.
المصدر
نفسه، ص 52 .
44.
المصدر
السابق: ص44-45 .
45.
الشاعر
الجاهلي والوجود "دراسة فلسفية ظاهرتية: باسم ادريس قاسم،ص 60 ، مجلة
المستقبل العربي ، العدد 423، أيار مايو ، 2014م
46.
المثقف والسلطة: ادوارد سعيد ص 95 ، مرجع سابق
47.
سيميائيات
أيديولوجية :حبيبة الصافي ، مرجع سابق ، ص164.
48.
القيم
الفكرية والجمالية في شعر طرفة بن العبد: عبد القادر فيدوح ،، ص87 ،ط1 ،مؤسسة
الأيام للصحافة والنشر والتوزيع ، المنامة ، البحرين ، 1998م.
49.
الديوان:طرفة
بن العبد ، مصدر سابق ، ص49 .
50.
المصدر
نفسه: ص45-46 .
51.
العزلة
والمجتمع: نيقولاي برديائيف ، ترجمة: فؤاد كامل وعلي أدهم ، ص60، دار الشؤون
الثقافية العامة (أفاق العربية )،1986م.
52.
:تجارب
وشهادات جريدة الاديب: يوسف الصايغ ص23، دار الاديب للنشر ، بغداد ، ع72 ، 2005م.

أضف تعليق