السياق الخارجي في نصوص المتشابه من آي القرآن الكريم نماذج من تفسير ابن الزبير المسمى "مِلاك التأويل"
السياق الخارجي في نصوص المتشابه من آي القرآن الكريم
نماذج من تفسير ابن الزبير المسمى "مِلاك
التأويل"
مقاربة تداولية
د. رشيد السباعي
تقديم
يتناول كتاب "ملاك التأويل" لابن الزبير
متشابه آي القرآن الكريم بالاعتماد على ظواهر عديدة، منها ما تعلق بنظم الكلام
ومنها ما تعلق بالنحو والبلاغة والدلالة والتداوليات وسائر علوم اللغة.
والملاحظ أن أغلب هذه الظواهر ارتبطت بالسياق بوجه أو
بآخر، لذلك ارتأيت أن أجعله موضوعا لهذا البحث من زاوية تداولية، فما أهمية السياق
في التداولبات الحديثة؟ وكيف نعالج تأثيره في توجيه المعنى في المتشابه من آي
القرآن انطلاقا من هذه الزاوية؟
-Iأهمية السياق وتطور النظرية السياقية
1- أهمية السياق
يبدو جليا الحاجة الملحة للسياق في إجلاء المعاني للمتون
اللغوية والملفوظات مكتوبة كانت أو منطوقة، وأن عزل المتن اللغوي عن سياقه
"هو بمنزلة فصله عن ماء حياته، فلكم هي المواقف التي مرت بنا أثناء إعراب
شواهد قرآنية أو شعرية، تبلبلت فيها الألسن واضطربت الآراء، ومرد ذلك أنها معزولة
عن سياقاتها العامة في القرآن الكريم أو في القصيدة المنظومة"[1].
لعل هذا ما يدعونا وبإلحاح لإثارة الأسئلة التالية:
ما علاقة اللفظة بالسياق؟ كيف تتحدد هويتها داخله؟ كيف
تنتظم علاقتها بالقواعد والتركيب؟ هذه الأسئلة وغيرها تبدو ملحة وحاسمة في تحديد
دور الكلمة في التركيب اللغوي، وما يوازيه من سياقات، إضافة إلى ما يتميز به مفهوم
الكلمة من غموض، في الدرس اللغوي القديم واللسانيات الحديثة على السواء.
ومحاولة التمييز بين اللفظة والسياق تجرنا إلى التمييز بين السياق ونظرية النظم التي تتعلق بنظم الكلمات كعقد الجواهر كما تبدو مع عبد القاهر الجرجاني في كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز"، غير أن الفصل بينهما يبدو صعبا نظرا لترابطهما، غير أن السياق في التراث النقدي العربي"يشمل عناصر لغوية تشكل المحيط اللغوي الصرف للفظة، وعناصر غير لغوية (Extralinguistiques) ترجع إلى سياقات أعم قد تكون نفسية، واجتماعية، وسياسية...إلخ. على حين أن المفهوم الثاني يقتصر على أنماط التشكيل التركيبي المحتملة التي تعطي للفظة دورها الجزئي ومعناها الأدق."[2].
2- بين الموقف (situation) والسياق ( contexte)
يتفق عدد من اللسانيين المعاصرين حول ضرورة التمييز بين
المحيط اللغوي الصرف للكلمة وهو ما يطلق عليه (cotexte)، والمحيط غير اللغوي للعبارة، وهو ما يعرف بمصطلح (context)، ويفضلون تعويض مصطلح "السياق" غير اللغوي
بمصطلح "موقف"(situation)
[3].
ويعرف أسوال ديكروOswald
Ducrot وتزيفان
تودوروف Tzvetan Todorov في "المعجم الموسوعي
لعلوم اللغة" هذا المصطلح بقوله:
" نسمي موقف الخطاب مجموع الحيثيات التي
يجري داخلها فعل تلفظي ما، ( سواء أكان مكتوبا أم منطوقا)". [4]
قبل أن تصبح النظرية السياقية قائمة الذات، كانت عبارة
عن أفكار موجودة هنا وهناك في أعمال اللغويين وغيرهم، وبربط نظرية المعنى في
التراث العربي بعلم الأسلوبية الحديث، بدأت تتضح معالمها الأولى، ثم برزت أكثر مع
الاتجاهات البنيوية، تجلت في مفاهيم كالحقول الدلالية وغيرها من المفاهيم المرتبطة
بالسياق، وتم الفصل بين المعنى الشكلي، المرتبط بالكلمة كوحدة معجمية لا يتعدى
مدلول مجموع أصواتها، وهو المعنى المحايد للكلمة، والمعنى السياقي، وهو المعنى
الذي يمنحه السياق للكلمة في إطار تأثرها بما قبلها وما بعدها، وبالمحيط العام
للقول، ويتعلق الأمر بعدة سياقات مترابطة، لغوية، وثقافية، واجتماعية، وغيرها،
تخدم السياق العام، للنص وتنظم العلاقة بينه وبين الموقف الذي وجد فيه.[5].
وسنعرض هنا بشكل موجز أهم محطات تطور النظرية السياقية
في اللسانيات الحديثة.
والبداية مع البنيوية،
حيث اعتبر دوسوسير De Saussure Ferdinandأن اللغة ظاهرة اجتماعية، شأنه في ذلك شأن اللساني وعالم
الاجتماع دوركايم الذي درس كل الظواهر اللغوية انطلاقا من ارتباطها بالمجتمع، فـدوسوسير
اعتبر أن اللغة إما أنها ظاهرة اجتماعية أو لا توجد، وهو ما يؤكد الارتباط الشديد
للغة بمحيطها الاجتماعي والثقافي الذي تحيا فيه.
ويعرف دوسوسير اللسان بأنه نظام من العلاقات بين الدلائل
المقبولة من طرف مجموعة لسانية، أما
الكلام فهو يوازي مفهوم الخطاب لديه ، ويبدو ذلك من تعريفه بكونه عملية الفرد
المستعمل للسان إما للحديث أو السماع لفهم
ما يتعلق باللغة عبر ما سمي بالدورة الكلامية
(Circuit de
parole) ، يفترض
فيه وجود شخصين يتبادلان الحديث على الشكل التالي:[6]
أثناء إنجاز الكلام الذي يوازي مفهوم الخطاب عند سوسير، نكون بصدد العمليات التالية :
- المرسل (E) عندما يريد
توجيه خطاب للمستقبل (R) يتصور تصورا (c1) يتناسب مع
ما يريد أن يعبر عنه (الصورة الذهنية i1) ، فيرسله عبر صورة صوتية أو سمعية : (image acoustique) إلى المستقبل أو المخاطب الذي يفهم هذا الخطاب ويقوم بنفس
العملية للرد عليه:
- فإذا تساوت ( c1) و (c2) كان التواصل ناجحا، وإذا لم يحصل هذا التطابق
فإن معيقا ما ساهم في عدم نجاح هذا الخطاب.
وهذا المعيق لن يخرج عن إطار السياق الذي يحيط بالخطاب
وبشخصياته، وبالطبيعة الاجتماعية للغة، يقول "دوسوسير" :
"يجب وضع العامل الاجتماعي في الحسبان الذي يتضح
ارتباطه بالعلامة اللغوية، ويبين أنها ليست بمعزل عنه، فهو يلعب دورا كبيرا في
تنظيم اللغة باعتبارها نسقا."[7]
ويضيف: "ولكي نفهم أكثر هذا الدور يجب عدم الاقتصار
على الفعل الفردي فهو ليس سوى محركا للكلام، ويجب الاستئناس بالدور
الاجتماعي." [8]
كما اعتبر "مالينوفسكي" أن اللغة أسلوب عمل،
واعترف بوجود سياق يؤطرها سماه "سياق الموقف"، أما "فيرث"،
فقد بدأت تتضح معه نظرية السياق أكثر، فحددها في الصفات المشتركة بين المتحدثين من
جهة، ومن جهة أخرى في تدخل عوامل خارجية.
وقد حدد "جاكبسون" السياق في المرجعية
الخارجية، واعتبر اللغة وسيلة تعبيرية، تتكون من رسالة عبارة عن رموز، ومرسل وهو
المسؤول عن التعبير عن أغراضه، ثم مستقبل وتناط به عملية فهم الرسالة.
وتطرق "أوستين" للسياق في نظريته المعروفة
"بنظرية أفعال الكلام"، والتي ضمنها في كتابه "Quand dire c’est faire" حيث أكد أن الوحدة الدنيا للتواصل ليست هي الملفوظ، أو
الخطاب أو غيره، وإنما الوحدة الدنيا للتواصل لا تتم إلا بمدى إنجاز هذا الفعل
التواصلي في الواقع، وخصوصا في الأفعال الإنجازية، وقد قسم "أوستين"
الفعل إلى قسمين: فعل إخباري إثباتي، ولم يهتم به، وفعل إنجازي، وكان محور نظريته،
حيث قسم مراحل إنجاز هذه الأفعال إلى ثلاثة مراحل:
- مرحلة النطق بالفعل (Locution)
- مرحلة الفعل القضوي، أي كيف يفهم المخاطب
الفعل (
Illocution)
- ثم مرحلة الفعل التأثيري، أي مرحلة إنجاز الفعل ( Per locution)
وقد قسم أوستين J. L. Austin الأفعال الإنجازية إلى أقسام عدة لا داعي للخوض فيها،
يرتبط إتمام العملية التواصلية فيها بمدى استكمال إنجازها في الواقع، ويترتب عنها
أفعالا حقيقية يحتل فيها السياق الواقعي النصف الآخر لإتمام العملية التواصلية[9].
في حين حدد "هايمز" السياق في مقام وزمان
ومكان وجود الرسالة التي تتطلب مرسلا ومتلقيا وموضوعا وقناة للتواصل وتحديدا لشكل
الرسالة، ويتقاطع معه ليفيس في تحديد خصائص السياق في الزمان والمكان إضافة إلى
العالم الممكن الذي يتجلى في الوقائع وغيرها.
أما في النحو التوليدي فيتجلى حضور السياق في النظرية
الدلالية التأويلية، حيث تم الاستعانة به في تحديد المعنى في نموذج
"كاتز" و"فودور" (1963 )، من خلال إدخاله في القاموس الذي
يتكون من مداخل عامة ومداخل خاصة وقواعد الإسقاط التي تساهم في تحديد المعنى العام
للجملة انطلاقا من قواعد الضم، حيث يقضي الشرط الدلالي أن تتلاءم المداليل
المضمومة بعضها إلى بعض" إلا أن هذا الشرط قد لا يستوفي في جمل من قبيل هذه
عين أو رأيت عينا (والتي تحتمل عدة دلالات كالجاسوس وعين الماء وكبير القوم)،
فنحتاج إلى قرائن سياقية كي يتم تأويل هذا المشترك تأويلا ملائما"[10].
وفي نموذج للتحليل النحوي الدلالي للنص في إطار النظرية
الدلالية التوليدية يحاول "بتوفي" (J. Petôfi) أن يوازن
بين عالم واقعي يسميه "بنية العالم" وعالم إبداعي يتعلق ببنية النص[11]،
وذلك بعدم اقتصاره على العلاقات الداخلية للنص بل بتجاوز ذلك إلى معاني خارجية
يحيل عليها، تسمى المعاني الإضافية أو الإحالية أو التداولية متعلقة بالسياق تدخل
في إطار المكون الدلالي الذي "تكمن مهمته في إلحاق نماذج ما، بوصفها ماصدقات،
بكل نص في كل عالم ممكن من خلال تمثيلات المفهوم النصية، تلك الماصدقات تتبع
السياقات الواردة فيه"[12].
ويعتبر "هاليداي" السياق نصا موازيا للنص، ولا
ينحصر حضور السياق في كونه محيطا ماديا فقط، "بل هو بنية سيميوطيقية (semiotic structutre) عناصرها الأعراف الاجتماعية والقيم الثقافية
المأخوذة من النظام السيميوطيقي (العلاماتي: الأيقوني- الإشاري- الرمزي) الذي يكون
الثقافة."[13].
ويرى "سوسير" - أحد البنيويين ورائد اللسانيات
الحديثة - أن السياق هو مجموعة من العناصر المتتابعة والمتآلفة في السلسلة
الكلامية، تتسم بالامتداد، وهي ما يطلق عليها "العلاقات السياقية"، وهو
نفس المنحى الذي ذهب إليه تمام حسان بخصوص الناحية الشكلية للكلمات، حيث يقول:
"ترتبط الناحية الشكلية للكلمات في السياق بعلاقاتها بما قبلها وما بعدها،
وقد رأينا كيف كانت أداة التعريف دليلا على اسمية ما بعدها، وأن ياء النسب دليل
على اسمية ما قبلها، كما أن "سوف" تقوم دليلا على فعلية ما يليها"[14].
فيما يذهب "جون لاينز" إلى أن معنى الوحدة
الكلامية لا يقف عند حدود القول، بل يتعدى ذلك إلى أشياء أخرى ضمنية أو مقصودة
مسبقا، وبذلك يكون للوحدة الكلامية وجهان: وجه يتعلق بها لذاتها، ووجه خارج عنها،
يتعلق بالسياق.[15]
4-
السياق من وجهة نظر معرفية Cognitive) )
بالاستناد إلى مضمون النص في العملية التواصلية تبرز
تساؤلات حول التمييز بين المعلومات الأساسية والمعلومات الثانوية، وهي أمور تتعلق
بالذهن البشري وكيفية استعادته للمعلومات انطلاقا من الذاكرة البعيدة المدى أو
القريبة المدى وانطلاقا من التجارب الشخصية لكل فرد، "وتكمن المشكلة في معرفة أنماط البيانات
التي يحتفظ بها في الذاكرة، وكيف ترتبط هذه العملية بفهم النص."[16]
ويعزو "فان دايك" إلى ما يسميه "الأساس
النصي" المرتبط بكيفية انتقال المعلومات بين الذاكرة القصيرة المدى والذاكرة
البعيدة المدى وعملية استعادة المعلومات أو نسيانها حسب التجربة الشخصية وما يمثله
مضمون النص بالنسبة لها، "إذن لكي نستطيع فهم نص معين، علينا أن نقيم بين
الجمل الطويلة الروابط الضرورية في الذاكرة العملية، ثم نحرر هذه الأخيرة جزئيا من
حمولتها، وندخل فيها مجددا معلومات جديدة، وعليه فإن سياق فهم النص هو ذو طابع دوري".[17]
بالإضافة إلى ذلك فإن تحديد وحدة النص لا يتأتى إلا من
خلال الاستعانة بمجموعة من السياقات الدلالية في تلاقح بين مكونات النظرية
الدلالية والنظرية التواصلية، مع استحضار القرائن المعنوية واللفظية والحالية
المقامية والعلاقات السياقية، حيث يمكن لعلامات نحوية كالزمن مثلا أن تكون عنصرا
موجها حاسما في عملية الإبلاغ[18]،
وهذا ما يستدعي الاهتمام بالجانب النطقي والجانب المكتوب للنص والنظر إلى سياقات
الألفاظ وما يسبقها وما يليها.
II- الأفق التداولي في تفسير ابن الزبير للمتشابه من آي القرآن
1- أسباب النزول رائز تداولي
كثيرا ما يستعين
ابن الزبير بأسباب النزول لتفسير المتشابه والتدليل على اختلاف العبارة أو بنية
النص تبعا لاختلاف المقام المتعلق بالأحداث الواردة في أسباب النزول، فتكون خير
معين وحكما فصلا في توجيه معنى المتشابه، وتفسير سبب اختلاف البنية واللفظ، كما في
قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾[19]،
وفي نفس السياق يقول عز وجل في سورة التوبة: ﴿ وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ
الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ﴾[20].
فورد التعبير بالإيمان في سورة آل عمران وورد ت عبارة
الإسلام بدل ذلك في سورة التوبة وكان المقام التداولي للخطاب القرآني هو الموجه
لورود هذه العبارات كل حسب سياقها، فكلمة الإيمان تناسب من آمن بقلبه ولم يظهر
نفاقا، ويستعين بن الزبير بأسباب نزول الآيات في توجيه معنى المتشابه حسب ما
يقتضيه المقام الوارد في أسباب النزول، فيقول : "فقد ذكر المفسرون أن آية آل
عمران نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري وكان قد أسلم ثم ارتد ولحق بالكفار ثم ندم
فأرسل إلى قومه ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل له من توبة فنزلت الآية
فكتبوا بها إليه فأسلم وحسن إسلامه، فكانت حاله حال إيمان وتصديق صحيح لم يظهر
خلافه وذلك هو الإيمان، فناسب حاله وصفه بالإيمان وهو التصديق بالقلب."[21]
أما ورود عبارة الإسلام في آية التوبة فمرده أيضا إلى
السياق الوارد في سبب النزول، يقول بن الزبير:"أما آية التوبة فنزلت في
الجلاس حين قال في غزوة تبوك لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمر، فنمي ذلك
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعاه فحلف ما قال وكان منافقا معروف النفاق
يتظاهر بالإسلام ويبطن خلافه"[22]،
فناسبه الوصف بالإسلام لأنه قد يقع بالانقياد في الظاهر، وقد يكون المتصف به ليس
مصدقا مؤمنا بقلبه.
2- المعنى والمبنى والسياق
يرتبط المعنى والمبنى والسياق في كل متماسك، ليقدم
تفسيرا لاختلاف المتشابه، وبذلك فهو يشكل هندسة متوازية تخدم المعنى وتوجهه بشكل
دقيق تبعا للقصد الذي أريد له، لنتمعن قوله تعالى في سورة البقرة:
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾[23]،
وقوله عز وجل: ﴿ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ﴾[24]
فلما كان المقام في الآية الأولى مخاطبة بني إسرائيل[25]،
وردت عبارة "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين" لعدم اتسامهم بالخشوع
واتصافهم بالكسل في أداء الصلاة، والدليل قوله تعالى في وصفهم ﴿ وَلاَ يَأْتُونَ
الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى﴾[26].
وأما ورود عبارة "إن الله مع الصابرين" في الآية الثانية فكان مقام مخاطبة المؤمنين يحتم ذلك لاتسامهم بالصبر في إقامة حدود الله التي من بين أهمها الحرص والمواظبة على إقامة الصلاة، وخير دليل على ذلك الخطاب الموجه للمؤمنين في قوله تعالى في السورة نفسها وفي الآية نفسها ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾[27]، فكان ما ناسب السياق في الآية الأولى الخشوع وهو ما يفتقده بنو إسرائيل، وصفة "الصابرين" ناسبت المؤمنين لما كانوا كذلك في الحفاظ على الصلاة وسائر الواجبات الدينية.
2-1- الخطاب المباشر والخطاب غير المباشر
يتعلق الأمر هنا بثنائية الحضور والغياب التي يتسم بها
المخاطب، وهي سمة تؤثر في بنية الخطاب، وتتحكم في ورود اللفظ المناسب للمقام
المناسب حسب ثنائية: حضور/ غياب المخاطب، يتجلى ذلك في قوله تعالى في سورة الزخرف: ﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾[28]، ثم قوله عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ
إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا
عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾[29].
لقد اختلفت خاتمتا الآيتين
الكريمتين تبعا لنوع الخطاب وتبعا لسياق الكلام، ففي الآية الأولى يتعلق الأمر
بكفار العرب المعاصرين للرسول عليه الصلاة والسلام[30]،
حيث دعاهم إلى الهدى المتمثل في توحيد الله، فأجابوه بمثل كلامه، وقالوا بأنهم
مهتدون، فإذا كان عليه الصلاة والسلام يطلب الهداية منهم فإنهم – بحسب زعمهم
مهتدون بما وجدوا عليه آباءهم- وجاء ذكر الهداية مساوقا لذكرها في خطاب الرسول
عليه الصلاة والسلام للعرب المعاصرين له.
غير أن الخطاب في الآية الثانية
جاء عاما وهو حكاية عن عدة أمم وقرون مختلفة، ولا يهم هنا إن كان ما اتبعوه هدى أو
غير هدى، بل يبقى مجرد تقليد لما وجدوا عليه آباءهم، وبذلك ناسب حال هذا الاتباع
وصفه بالاقتداء في خاتمة الآية الثانية.
وفي نفس الإطار يدخل قوله تعالى في
سورة الفتح: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا
فَاسْتَغْفِرْ لَنَا﴾[31] ويقول عز وجل بعد ذلك: ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا
ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾[32]، حيث كانت الحاجة لإضافة
"لك" في الآية الأولى، لأن الخطاب فيها كان مباشرا طلب فيه المخبر عنهم
من الرسول صلى الله عليه وسلم الاستغفار لهم، فكان هذا الطلب موجها له وليس لغيره،
ولذلك خاطبه الله عز وجل بصيغة المفرد في عبارة "لك".
بخلاف الآية الثانية، فلم يكن الخطاب فيها خاصا به صلى الله عليه وسلم، "بل هو خطاب له وللمؤمنين، والسياق يفصح بذلك، وما أمره به عليه السلام، من مجاوبتهم في قوله لهم: "لن تتبعونا" فلم يرد هنا إفراده صلى الله عليه وسلم بخطابهم له كما ورد في الأولى"[33].
3- القصدية والتركيب
تماشيا مع الطرح الوظيفي لمعالجة اللغة باعتبارها أداة للتواصل، فإن القصدية تتحكم بشكل كبير في بنية الخطاب لأن العبارات – من هذا المنظور- ما هي إلا وسائل لتأدية أغراض تواصلية معينة ( المتوكل،أحمد 2006)، وانطلاقا من هذه النظرة الوظيفية التداولية التي اعتمدت أداتية اللغة، فإن القصد يساهم في تحديد الشكل البنيوي التركيبي للعناصر اللغوية[34]، وهو ما يجعل النحو الوظيفي نظرية للتركيب والدلالة من زاوية نظر وظيفية[35]، ويمكن تزكية هذا الطرح بما ورد في الآيتين الكريمتين المواليتين من تناغم بين القصد والتركيب، حيث يقول تعالى في سورة لقمان: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[36]، وقوله عز وجل في سورة الجاثية: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[37]، ففي الآية الأولى لم ترد كلمة " السمع " قبل الآيات، لذلك كانت زيادة في تركيب الكلام تجلت في إضافة " كأن في أذنيه وقرا"، لكن مع الآية الثانية لم يكن ذلك مسوغا بعد ورود كلمة "يسمع"، والمقصود منها أن المخاطب يسمع الآيات، ولم يناسب ذلك، إضافة "كأن في أذنيه وقرا"، لذلك جاءت آية الجاثية عارية من هذه العبارة.
3- 1- القصدية واللفظ
يتجلى تساوق القصدية واللفظ في قوله تعالى في سورة
الأعراف: ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ
لَكُمْ﴾[38]،
وفي طه والشعراء: ﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾[39].
فورد اسم القائل في الآية الأولى، وهو فرعون ولم يرد في
الآية الثانية، وذلك لأن الخطاب يخص قومه، وقد سبق ذكرهم في السياق السابق للآية،
لذلك جاء اسمه ظاهرا عن قصد حتى لا يقع الالتباس في إمكان أن يكون القائل شخصا
آخر، أما الآية الثانية فقد ورد قبلها ذكر فرعون كثيرا فاتضح المعني بالخطاب، لذلك
كان من الأنسب عدم تكراره.
أما ورود الباء في الآية الأولى في قوله: "آمنتم
به"، واللام في قوله: "آمنتم له"، فقد كانت من أجل تدقيق المعنى
ليتناسب مع السياق التداولي المتعلق بحال المخاطبين، فلما بدا للمتكلم - وهو فرعون
في الآيتين معا- أن حال المخاطبين حال خضوع وانقياد كان التعبير باللام أنسب لأنها
تتضمن هذا المعنى الذي يميل إلى الإذعان، ولما كان الحال أميل إلى التصديق ناسب
ذلك التعبير بالباء لأنها تحرز هذا المعنى.
وفي قوله تعالى في سورة إبراهيم: ﴿ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً
لَكُمْ﴾[40]، وقوله عز وجل في سورة النمل: ﴿ أمن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتَنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ
لَكُمْ﴾[41].
لم يكن تقديم وتأخير لفظ
"لكم" في الآيتين الكريمتين جزافا، بل وقع ذلك من أجل تأدية معنى تداولي
معين، وهو في حال التقديم تنبيه المخاطب وهو ما وقع في الآية الثانية حيث تقدمها
تعنيف للمشركين في قوله تعالى: ﴿
ءَاللهُ
خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[42]، فأعقبها تنبيههم لإيقاظهم من
الغفلة لأن إنزال الماء وغيره من الخيرات هو من أجلهم ولا حاجة لله به ولم يحصل
هذا المقام في آية إبراهيم، لذلك وقع تأخير اللفظ الدال على المخاطب
"لكم".
4- لكل مقام مقال
إننا لنجد العبارة مختارة بعناية
لمناسبة المقام الذي قيلت فيه لتؤدي المعنى المناسب في المقام المناسب، ويظهر ذلك
في الآيتين الكريمتين التاليتين: قوله تعالى في سورة الحجر: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[43]، وقوله تعالى في سورة الشعراء: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ﴾[44] ، حيث أضيفت في الآية
الأخيرة لفظة "لمن اتبعك" لتؤدي معنى تداوليا جليلا، وهو التلطف
والتهوين لأن الآية سبقها خطاب إنذاري يتجلى في قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾[45].
5-
اختلاف اللفظ واتحاد التداول
يمكن أن نمثل لاختلاف اللفظ واتحاد
التداول في قوله تعالى في سورة مريم: ﴿ فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[46]، وفي سورة الزخرف: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ
يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾[47].
فمن المعروف أن الكفر أشد من
الظلم، وهو من الكبائر التي لا ينفع معها شيء من أعمال البر، وهذا حال المكذبين
برسالة عيسى عليه السلام واستهتارهم بشأن وحدانية الله عز وجل واختلافهم بين
القائل أن عيسى هو الله وقائل أن عيسى هو ابن الله، فكان حالهم هذا ومقامهم هذا
أنسب ما يكون وصفه بالكفر، وتكون العاقبة تتضمن إضافة إلى العذاب فضحهم، فكان
التعبير عن هذا الفضح باليوم المشهود.
وفي سورة الزخرف تعبير عن الكفر
بالظلم لأن الخطاب يتعلق بالقوم أنفسهم والحال نفسه، وهو الاستهتار بنبوة عيسى
عليه السلام والاختلاف فيها على الطريقة المذكورة سابقا، وبناء على السياق الخارجي
المتعلق بحال المخاطبين فإن ظلمهم هذا بلغ مبلغ الكفر، وعليه فإن الكفر والظلم في
الآيتين الكريمتين رغم اختلافهما معجميا ودلاليا فإنهما اتحدا في التعبير عن معنى
تداولي واحد وهو حال قوم عيسى إزاء رسالته عليه السلام والمآل الطبيعي لهذا الحال.
5- 1- اللفظ المكرر للمعنى التداولي المكرر
لنقرأ قوله تعالى في سورة القمر: ﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُذَّكِرٍ﴾[48].
فالملاحظ تكرار عبارة: "فكيف
كان عذابي ونذر" وذلك لأن العذاب تكرر مع المعنيين بالخطاب وهم عاد، فقد
كذبوا هودا وابتلاهم الله تعالى بالقحط ثلاث سنين فلم يتوبوا، فأهلكوا بريح عاتية،
وكان امتحانهم بعذابين عبر عنهما بتكرار الجملة: "فكيف كان عذابي ونذر"
مرتين في تناسق مع ما وقع على أرض الواقع.
وما يمكن أن ينسحب عليه التحليل
نفسه، ولكن بشكل آخر، ما ورد في سورة الرحمان، حيث يتكرر لفظ "الميزان"
في قوله تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ
أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ
تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾[49]، في إشارة إلى أن هذا الميزان وهو
رمز العدل والمساواة هو ما تستقيم به أمور المخاطبين وأحوالهم في جميع مناحي
الحياة، فجاء تكرار الميزان في الخطاب تعبيرا عن حضوره الدائم والمتكرر في حياة
المخاطب في الآية الكريمة وهو الإنسان.
6- السياق والتبئير focalisation))
باعتبار أن البؤرة هي المعلومة التي يراد إبرازها نظرا
لأهميتها في الخطاب، وقد قسمت لدى الوظيفيين إلى بؤرة جديد، وهي المعلومة التي
يجهلها المتكلم، وبؤرة مقابلة وهي المعلومة التي وقع خلاف بين المتكلم والمخاطب
فيها[50]،
فإنه في الآيتين الكريمتين تم التركيز على الفوز الحقيقي المبين، وليس الفوز الذي
يزعم الجاحدون أنه الفوز الدنيوي، فتم
تبئير الفوز المبين الحقيقي، وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿ وَذَلِكَ
الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾[51]،
وفي سورة الجاثية: ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾[52].
فورد واو العطف في الآية الأولى، وغاب في الآية الثانية مع زيادة "هو" وكان للسياق العام الداخلي والخارجي للنص القرآني دوره فيما سبق ذكره من اختلاف في النظم، فقد ورد قبل الآية الأولى قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصِيتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[53] ثم ورد بعدها إمكانية صرف هذا العذاب برحمة من الله، وكان مناسبا للسياق عطف هذا الفوز على ما سبق، أما آية الجاثية فقد وردت في سياق الرد على منكري البعث[54]، وذلك في قولهم: ﴿ مَا هِي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ﴾[55]، واعتبارهم حياتهم هاته هو الفوز، ويجيبهم الله سبحانه وتعالى بتعقيب يسمى في النحو الوظيفي الذي يدخل ضمن المقاربات التداولية للغة ببؤرة المقابلة وهي المعلومة التي يكون فيها خلاف بين المتكلم والمخاطب، حيث يقول لهم عز وجل بأن الفوز بالحياة الأبدية في الآخرة هو الفوز العظيم، لا حياتهم الزائلة والتي هي عبارة عن لهو ولعب.
7- اللفظ ومحور الخطاب
لنلاحظ هذا الخيط الرفيع في علاقة
اللفظ بمحور الخطاب في قوله تعالى في سورة الإنسان: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ
وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيراً قَوَارِيرًا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا
تَقْدِيرًا﴾[56]، وقوله عز وجل: ﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ
إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُورًا﴾[57].
فقد بنيت الآيتين على قصد معين هو تعظيم حال أهل الجنة، فكان الاهتمام مركز في الآية الأولى على الأواني الفضية والطعام والشراب المخصوص لديهم، لذلك تكرر لفظ الفضة تأكيدا وتعظيما، أما الآية الثانية فقد كان التركيز فيها على الأشخاص الذين يطوفون بهذا الأكل والشراب، وتم وصفهم بالولدان دائمي الصغر، ولا يشعرون بالعياء، ولا مشقة مع الطواف بأنواع المأكولات والمشروبات، ووصف حسنهم وتناسبهم باللؤلؤ المنثور.
خاتمـــة
لقد كان هذا
البحث محاولة متواضعة لدراسة موضوع لم ينل حظا وافرا – حسب علمنا المتواضع- من
الدراسة خصوصا في اللسانيات الحديثة، بعد ظهور تيارات تتوخى صورنة اللغة وترميز
معطياتها كالتيار التوليدي التحويلي في بداية الخمسينات مع نعام تشومسكي ورفاقه،
من أجل هدف معلن، هو تطويع اللغة لملاءمة برامج حاسوبية، والتوصل إلى تفسير القدرة
والكليات اللغوية.
وقد تأتى لهذه التيارات ما كانت تصبو إليه، وحققت
إنجازات لا يمكن إنكارها، لكن النجاح كان مقتصرا على جوانب محددة كالتركيب على
حساب جوانب أخرى أبت الخضوع لمنطق الصورنة والترميز كالدلالة والتداولية – ومنها
السياق موضوع هذا البحث- فكان حظها الإقصاء الممنهج بشكل ذكي لكونها شكلت عائقا
أمام تحقيق الكلية والصورنة بحسب زعم هذه التيارات، نظرا لطبيعة الدلالة
والتداولية المتمنعة على الترميز والاطراد لأنها تتعلق بالطبيعة الإنسانية والاجتماعية
وبظواهر خارج لغوية مقامية يتعذر على منطق الترميز الإحاطة بها.
لكن يبدو أن منطق اللغة يقول شيئا آخر بالإضافة إلى
الصورنة، فهي أصبحت مبرمجة في الحاسوب، لكن بقي منها أهم ما خلقت من أجله اللغة
وهو التواصل والقصد ونقل المشاعر والتعبير عن الأغراض تبعا لسياقات معينة، وهو ما
كان ومازال نقطة ضعف الصورنة والترميز.
لا يمكن إذن فصل السياق عن اللغة، كما لا يمكن فصلها عن
الدلالة والتداول، فهي ذلك الكائن الحي الذي لن يحيا خارج هذه المستويات، ولعل
ظهور نظريات تدافع عن هذه الحقيقة وتعارض تجريد اللغة عن طبيعتها الإنسانية
والاجتماعية يعتبر حراكا إيجابيا في اتجاه إعطاء دور أكبر للمستويات التي تعرضت
للإقصاء، كالدلالة التأويلية والدلالة التوليدية اللتان اعترفتا بالسياق كمتدخل في
تحديد معنى مفردة معينة وتفضيله من بين معانيها المتعددة، وذلك باعتمادها جهازي
القاموس وقواعد الإسقاط، والدلالة التصورية التي جعلت المعاني مرمزة في الذهن لكن
تبعا لسياقات ومصالح وتجارب تختلف من شخص إلى آخر، هذا إضافة إلى التيارات
التداولية التي اهتمت بدراسة سياقات الخطاب وربطته بمدى إنجازه وتحققه في سياقاته
على أرض الواقع، أما التيار الوظيفي فقد جعل من القصد إوالية تتحكم في بنية اللغة
ومن السياق والمقام محفزا للتنوع والاختلاف الذي تعرفه هذه البنية، وقبل هذا وذاك
أقر علماء العربية بأهمية الموضوع في مقولتي "مقتضى الحال" "ولكل
مقام مقال".
وبالرغم من أن السياق تتجاذبه تخصصات عدة كعلم الأصول وعلوم اللغة واللسانيات
– وهنا تكمن صعوبة دراسته من كل جوانبه- فقد كان هذا البحث محاولة للإحاطة ولو
بشكل جزئي على الظواهر المقامية على وجه التحديد في المتشابه من آي القرآن الكريم،
بعد أن فتحنا نافذة صغيرة على اللسانيات الحديثة وما قالته بعض النظريات في موضوع
السياق.
ومع نهاية دراستنا للمتن المعتمد اكتشفنا عن كثب أن
السياق الخارجي على وجه الخصوص – اعتمادا على تفسير ابن الزبير "ملاك
التأويل"- كان الحكم الفصل في الكثير من معاني المتشابه، وكان بحق كاشف أسرار
الاختلافات في أدق تفاصيلها، وكان الموجه لتشكيل اللفظ بذلك الشكل الذي جاء عليه
المتشابه تبعا للقصد والمقام والسياق الداخلي والخارجي الذي يحيط به.
لقد حاولت قدر الإمكان أن أعالج إشكاليات تتعلق بالسياق
في المتشابه من آي القرآن الكريم اعتمادا على تفسير ابن الزبير، وإني في كل عملي
المتواضع هذا أقول أن العلم لله عز وجل وحده فيما أراد من كلامه، فإن أصبت فذلك هو
القصد والمرام، وإن أخطأت فحسبي أجر المحاولة والحمد لله أولا وأخيرا.
المصادر والمراجع
أ- باللغة العربية
- القرآن الكريم، برواية ورش عن نافع.
-
بحيري سعيد حسن، علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، الشركة المصرية العالمية
للنشر، لونجمان، ط.1، 1997.
- جحفة عبد المجيد، مدخل إلى الدلالة الحديثة، دار توبقال
للنشر، 1996.
- حسان تمام، مناهج البحث في اللغة، الشركة الجديدة، دار
الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، 1979.
- ابن الزبير أحمد بن إبراهيم الثقفي العاصمي الغرناطي،
ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي
التنزيل، جزآن، تح. سعيد الفلاح، دار الغرب الإسلامي، تونس، ط.3. 2011.
-
العلواني طه جابر، السياق: المفهوم، المنهج، النظرية، مجلة الإحياء، العدد 26،
نونبر2007.
- علي نجيب إبراهيم، جماليات اللفظة بين السياق ونظرية النظم، بحثا عن طريقة لقراءة النص الأدبي القديم، دار كنعان للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، ط.1، 2002.
- المتوكل أحمد، الوظائف التداولية في اللغة
العربية،.منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، دار الثقافة، مطبعة
النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط. 1، 1985.
- المتوكل
أحمد، المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي، الأصول والامتداد، مطبعة الكرامة،
الرباط، المغرب، ط.1، 2006م.
- مقبول إدريس، الأسس الإبستمولوجية والتداولية للنظر النحوي عند سيبويه، أطروحة لنيل الدكتوراه في اللسانيات، إشراف د. محمد اللوحي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، السنة الجامعية 2004- 2005.
ب- المراجع الأجنبية
- De Saussure Ferdinand, Cours de
linguistique générale, Préparé par
Tullio De Mauro, Ed. Critique, Payot,
Paris, 1983.
- J. L. Austin, Quand dire c’est faire (How to do
thinks with words), trd. GILLES LANE, ed. du seuil, 1970.
- Oswald Ducrot / Tzvetan Todorov,
dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, ed. du seuil, 1972.
فهرس الموضوعات:
[1] مقبول
إدريس، الأسس الإبستمولوجية والتداولية للنظر النحوي عند سيبويه، أطروحة لنيل
الدكتوراه في اللسانيات، إشراف د. محمد اللوحي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية،
ظهر المهراز، فاس، السنة الجامعية 2004- 2005، ص. 256.
[2]
علي نجيب إبراهيم، جماليات
اللفظة بين السياق ونظرية النظم، بحثا عن طريقة لقراءة النص الأدبي القديم، دار
كنعان للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، ط.1، 2002، ص. 20.
[3]
علي نجيب
إبراهيم، جماليات اللفظة بين السياق ونظرية النظم، ص. 20، (بتصرف).
[4] Oswald Ducrot / Tzvetan Todorov, dictionnaire encyclopédique des sciences
du langage, ed. du seuil, 1972, p. 417.
[5]
العلواني طه جابر،
السياق: المفهوم، المنهج، النظرية، مجلة الإحياء، العدد 26، نونبر2007، ص. 50، (بتصرف).
[6] De Saussure Ferdinand, Cours de linguistique générale, Préparé par Tullio De Mauro, Ed. Critique,
Payot, Paris, 1983, p. p. 27 – 30.
[7] De Saussure
Ferdinand, C.L.G, p.29.
[8]
نفسه، ص. 29.
[9] J. L. Austin, Quand dire c’est faire (How to
do thinks with words), trd. GILLES LANE, ed. du seuil, 1970, p.p 24- 29.
[10] جحفة عبد المجيد، مدخل إلى الدلالة الحديثة، دار
توبقال للنشر، 1996، ص.63.
[11] بحيري سعيد حسن، علم لغة
النص، المفاهيم والاتجاهات، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ط.1، 1997، ص. ص. 256- 257.
(بتصرف).
[12]
نفسه، ص. 282.
[13]
العلواني طه جابر، السياق: المفهوم، المنهج، النظرية، مجلة الإحياء، ص. 50.
[14] حسان، تمام، مناهج البحث في اللغة، الشركة الجديدة، دار الثقافة،
الدار البيضاء، المغرب، 1979، ص. 233.
[15]
العلواني طه جابر، السياق: المفهوم، المنهج، النظرية، ص.
51.(بتصرف).
[16]
بحيري سعيد حسن، علم لغة
النص، المفاهيم والاتجاهات ص. 174.
[17]
نفسه، ص. ص. 175-
176.
[18]
بحيري سعيد حسن،
علم لغة النص، ص ص. 192- 197. (بتصرف).
[19]
سورة آل عمران،
آية 86.
[20]
سورة التوبة،
آية 74.
[21] ابن الزبير أحمد بن إبراهيم
الثقفي العاصمي الغرناطي، ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه
المتشابه اللفظ من آي التنزيل، جزآن، تح. سعيد الفلاح، دار الغرب الإسلامي، تونس،
ط.3. 2011، ، ج.1، ص. 311.
[22] نفسه، ص. 312.
[23] سورة البقرة، آية 45.
[24] سورة البقرة، آية 153.
[25] ملاك التأويل، 1/ 195. (بتصرف).
[26] سورة التوبة، آية 54.
[27] سورة البقرة، آية 153.
[28]
سورة الزخرف،
آية 22.
[29]
سورة الزخرف،
آية 23.
[30]
ملاك التأويل،
2/ 1016. (بتصرف).
[31]
سورة الفتح، آية
11.
[32]
سورة الفتح، آية
15.
[33]
ملاك التأويل، ج.2، ص. 1027.
[34]
المتوكل، أحمد،
المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي، الأصول والامتداد، مطبعة الكرامة، الرباط،
المغرب،ط.1، 2006م.
[35]
المتوكل أحمد، الوظائف التداولية في اللغة
العربية،.منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، دار الثقافة، مطبعة
النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط. 1، 1985، المقدمة، ص. 10. (بتصرف).
[36]
سورة لقمان، آية
7.
[37]
سورة الجاثية،
آية 7 – 8.
[38] سورة الأعراف، آية 123.
[39]
سورة طه، آية
71. وسورة الشعراء، آية 49.
[40]
سورة إبراهيم،
آية 32.
[41]
سورة النمل، آية
60.
[42]
سورة النمل، آية
59.
[43]
سورة الحجر، آية
88.
[44]
سورة الشعراء،
آية 215.
[45]
سورة الشعراء، آية 214.
[46]
سورة مريم، آية
37.
[47]
سورة الزخرف،
آية 65.
[48]
سورة القمر، آية
18- 22.
[49] سورة الرحمان، آية 7- 9.
[50]
المتوكل أحمد،
الوظائف التداولية في اللغة العربية، ص.ص. 27- 31.
[51]
سورة الأنعام،
آية 16.
[52]
سورة الجاثية،
آية 30.
[53]
سورة الأنعام،
آية 15.
[54] ملاك التأويل، 1/ 425. (بتصرف).
[55]
سورة الجاثية،
آية 24.
[56]
سورة الإنسان،
آية 16.
[57]
سورة الإنسان،
آية 19.

أضف تعليق